تهويد القدس بالتشجير- غابات استيطانية وحدائق توراتية

المؤلف: علي إبراهيم09.01.2025
تهويد القدس بالتشجير- غابات استيطانية وحدائق توراتية

إنّ مشروع تهويد القدس لطالما كان متشابكًا مع مساعي الاحتلال لترسيخ قبضته على الأرض، وتهميش الهوية الفلسطينية الأصيلة. ومن بين الأساليب الخفية للتهويد، يبرز "التشجير الاستيطاني"، الذي يعود إلى الواجهة بالتزامن مع الحرائق الهائلة التي نشبت في القدس المحتلة في نهاية شهر أبريل/نيسان المنصرم. وقد فاقمت هذه النباتات الغريبة من حدة النيران وامتدادها، لتشمل أكثر من مئة موقع في جبال القدس المحتلة، مما اضطر الاحتلال إلى طلب العون وإجلاء المستوطنين من مناطق الحرائق، واتخاذ تدابير أخرى.

في هذا المقال، نسلط الضوء على جانب مهمَل من تهويد شطري القدس المحتلة، ألا وهو المرتبط بالحدائق والتشجير. نقدم من خلال هذا المقال نظرة شاملة على تاريخ هذا النمط الخفي من التهويد، وكيف استغل المشروع الصهيوني الغابات لتحقيق أهدافه في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وإخفاء القرى العربية، واستمرار هذا الأسلوب حتى يومنا هذا، من خلال "الحدائق التوراتية" التي تطوق الشطر الشرقي من القدس المحتلة.

من البدايات إلى ملايين الأشجار الدخيلة

بدأ التوطين الاستيطاني في القدس في وقت مبكر، فمع توسع الأحياء الفلسطينية خارج البلدة القديمة، تمكن بعض الأثرياء من إنشاء أحياء يهودية خارج أسوار البلدة القديمة. أُقيم حي "يمين موشيه" في منطقة جورة العناب عام 1850، وهو أول حي يهودي ينشأ في القدس، وقد اشتراه السير موشيه مونتيفيوري في عام 1854. وتلاه حي "مئاه شعاريم" في منطقة المصرارة، ثم حي "ماقور حابيم" في المسكوبية عام 1858. واستطاع مونتيفيوري بناء سبعة أحياء استيطانية أخرى حتى عام 1892.

وعلى الرغم من القيود التي فرضتها الدولة العثمانية، استمر التوسع الاستيطاني بوتيرة متزايدة. فبحلول عام 1917، وصل عدد المستوطنات إلى حوالي 16 مستوطنة، تركزت معظمها في الشطر الغربي من القدس. ولعب أثرياء الحركة الصهيونية دورًا فعالًا في تمويل هذه المستوطنات، بدعم من القنصليات الأجنبية.

وبصورة موازية مع بدايات الاستيطان المادي، أطلقت المنظمات الصهيونية نمطًا آخر من الاستيطان، وهو الاستيطان عبر التشجير، من خلال الصندوق القومي اليهودي (Jewish National Fund)، الذي تأسس عام 1901. ووفقًا لإحصائيات الصندوق، فقد تمكن منذ تأسيسه من غرس أكثر من 260 مليون شجرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. تغطي هذه الغابات مساحة تتجاوز 250 ألف فدان (حوالي 1.1 مليون دونم). وتشير بيانات الصندوق إلى تنوع الأشجار المنتشرة في هذه المساحات، إذ تشمل البلوط، والصنوبر، واللوز، والسرو، والأرز، وبعض الأنواع الأخرى.

إلا أن معطيات "الصندوق" لا تقدم بيانات مفصلة حول حجم التشجير الاستعماري في شطري القدس المحتلة، غير أن أجزاء واسعة من شطرها الغربي قد خضعت لعمليات تشجير مكثفة، ومن أبرزها الجبال الغربية في هذا الشطر، والطريق التاريخي الذي يربط القدس بيافا، وغيرها من المناطق المحيطة بالبلدة القديمة.

التشجير وإحياء نبوءات توراتية

لم تقتصر أهداف أذرع الاحتلال على مجرد السيطرة على الأرض، وهو ما سنبينه لاحقًا، بل تشعبت لتشمل الأساطير الدينية التوراتية، من خلال ربط المشروع الاستعماري في الأراضي المحتلة بعالم الأشجار. فقد استند التفسير الصهيوني إلى نصوص دينية تتحدث عن "الأرض الموعودة" الغنية، التي تضم أنواعًا معينة من الأشجار، هي: "الصنوبر، والصندل، والفستق، والبلوط، والأرز، والطرفاء، والسرو، والصفصاف، والعرعر، والحور، والطلح".

إلى جانب المكانة المحورية للزراعة في الفكر اليهودي، وتخصيص أعياد خاصة بالشجرة تعود إلى الحقبة المبكرة من الاستيطان في عام 1887، وتشجيع مختلف الشرائح الاجتماعية على المشاركة في التشجير خلال يوم محدد من كل عام. وتشير المعطيات إلى أن الديانة اليهودية تربط مفهوم الشجرة بالإنسان، ومن العادات المنتشرة بين المستوطنين زراعة شجرة سرو أو صنوبر للمولودة الأنثى، وشجرة أرز للمولود الذكر، في سياق ترابط الأشجار والإنسان في الفكر اليهودي، وغير ذلك من الممارسات.

وعلى الرغم من هذه الأهمية الدينية، فإن التوجه نحو استنساخ البيئة الأوروبية وتسريع النتائج، كان العامل الأساسي الذي يدفع الصندوق القومي اليهودي إلى اختيار أنواع الأشجار. فقد زُرعت أشجار الكينا على نطاق واسع جدًا في المراحل الأولى من "الاستيطان الأخضر". وتشكل اليوم شجرة الصنوبر نحو ثلث عدد الأشجار في الغابات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، على الرغم من ذكر هذه الشجرة مرة واحدة فقط في النصوص اليهودية.

توظيف الزراعة في المشروع الصهيوني

"كانت فلسطين في نظر المهاجرين الصهاينة الجدد بمثابة صفحة بيضاء سيصممون عليها وطنهم المتخيل، ويحققون عليه النبوءة بخلق شيء من لا شيء"، بهذه العبارة البليغة تصف إليسا روزنبرغ الوضع في بحثها المعنون "خلق شيء من لا شيء". وروزنبرغ هي أكاديمية إسرائيلية ومهندسة متخصصة في المناظر الطبيعية.

وتوضح روزنبرغ أن التوسع في التحريج (زراعة الغابات) وصل إلى ذروته إبان الاحتلال البريطاني، بالتوازي مع عمل الصندوق القومي اليهودي. وكان الهدف المعلن للبريطانيين هو منع تعرية التربة، وتثبيت الكثبان الرملية، وتوفير الأخشاب والوقود. وقد سهّل وجود جهات معنية بالغابات في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية عملية استيراد البذور والشتلات من المستعمرات البريطانية البعيدة، بما في ذلك الهند، وأستراليا، ومصر، وقبرص.

وقد استجلب الاحتلال البريطاني ما يقرب من 250 نوعًا من النباتات من 20 دولة مختلفة خلال فترة احتلاله. وساهم الاحتلال البريطاني في الدفع بقوة نحو التشجير الاستيطاني، حيث زرعت سلطات "الانتداب" حوالي 20 مليون شجرة، ووفرت حوالي 15 مليون شجرة أخرى للمستوطنات اليهودية ولجهات أخرى. وفي الفترة نفسها، لم يكن نشاط الصندوق القومي اليهودي بهذه القوة، إذ أسهم بزراعة أعداد أقل بكثير من الأشجار خلال المدة نفسها.

من أبرز تجليات حملات التشجير المنظمة، محاولة استنساخ التصور الأوروبي-الصهيوني لهذه الأرض. وتشير المصادر إلى أن العمال وغالبية مهندسي الغابات في الصندوق القومي قدِموا من أوروبا الشرقية، وهو ما أدى إلى تطبيق تصوراتهم عن الغابات وشكلها واستخداماتها في الأراضي المحتلة التي يتم تشجيرها. وأدى ذلك إلى أن تصبح غابات الصنوبر التي أقامها الصندوق أشبه بغابات شمال أوروبا. إضافةً إلى محاولة المستوطنين الدخلاء التكيف مع الأراضي المحتلة، في محاولة للعثور على مكان "يشبه" هؤلاء الدخلاء في بلاد غريبة عنهم.

ولم يقتصر الارتباط بالأرض التي قدم منها المستوطنون على هذه الغابات فحسب، بل عملت هذه الأذرع التهويدية على ربط هذه الحدائق برواية الاحتلال، على المستويات الروحية والدينية، ومن خلال تخليد ذكرى الشخصيات المؤسِسة للكيان، وتلك الداعمة له في التأسيس. فقد أطلق الصندوق على هذه الغابات الاستيطانية أسماء المستوطنين الأوائل، والمقاتلين، وغيرهم من رموز الكيان، إضافة إلى شخصيات ساهمت في دعم الاستيطان. وعلى سبيل المثال، تشكل الغابات المزروعة في القدس المحتلة لغرض الذكرى والتخليد، ما يعادل ثلث هذه الغابات، ومن أبرز هذه الغابات "غابة القديسين" أو "الشهداء".

الحدائق التوراتية وابتلاع أراضي القدس

بدأت فكرة الحدائق التوراتية في الظهور عقب احتلال الشطر الشرقي من القدس المحتلة في سبعينيات القرن الماضي، وتصاعدت بشكل ملحوظ في العقدين الأخيرين، مع إقرار سلطات الاحتلال لعدد من المخططات الهيكلية، والتي وصلت إلى سبع حدائق ضخمة.

والحدائق "التوراتية" هي تسمية مضللة يهدف الاحتلال من خلالها إلى إضفاء روايته الدينية على الأراضي الفلسطينية في المدينة المحتلة بهدف الاستيلاء عليها، وما يتبع هذه السيطرة من منع أي وجود فلسطيني في محيط الأقصى، وبطبيعة الحال فإن ارتباط هذه المصطلحات بـ"المعبد" المزعوم والعدوان المتصاعد على الأقصى يمثل جزءًا من هذه المخططات، إذ تتركز هذه الحدائق في محيط المسجد الأقصى، وتلاصق سور القدس التاريخي، وفي عدد من المواضع تتوسع لتطوق البلدة القديمة والمناطق المحيطة بها، وخاصة في الجهات الجنوبية والشرقية والشمالية.

وتشير المعطيات إلى تزايد الاهتمام الحكومي الإسرائيلي بهذه الحدائق منذ عام 2005، فقد خصصت أذرع الاحتلال ميزانيات ضخمة لتطوير هذه الحدائق، وتفيد البيانات بأن هذه الحدائق قد أدرجت ضمن الميزانيات المتعلقة بتعزيز مكانة القدس كـ "وجهة سياحية"، ودعم بلدية الاحتلال في القدس ومشاريع تهويدية أخرى. ولا تشرف على هذه الحدائق جهة واحدة، بل ينشط في تطويرها عدد من أذرع الاحتلال، من بينها جمعية إلعاد الاستيطانية، وسلطة الطبيعة والحدائق العامة الإسرائيلية، وبالطبع تشارك كل من بلدية الاحتلال في القدس، وشركة تطوير القدس، الأمر الذي سمح بتوسيع حجم هذه الحدائق، حيث تجاوزت مساحتها 2700 دونم. وتتوزع هذه الحدائق على النحو التالي:

  1. الحديقة التوراتية المحيطة بالبلدة القديمة، وتبلغ مساحتها 1100 دونم، وهي الأكبر بين هذه الحدائق، وقد تمت المصادقة عليها في عام 1974، وتعتبر الأخطر، فهي ملاصقة لسور القدس والأقصى، وتستهدف أجزاء من مقبرة الرحمة، إضافة إلى ضمها عددًا من الحفريات والمواقع الأثرية. وتكمن المخاطر المترتبة على هذه الحديقة بالتحديد، في أن الاحتلال يتعامل معها على أنها امتداد للمساحات غير المسقوفة في الأقصى، وأن البناء الإسلامي لا يتجاوزها، وذلك في سياق مخططاته الرامية إلى تهويد المسجد وتقسيمه.
  2. الحديقة التوراتية في وادي الصوانة، وتبلغ مساحتها 170 دونمًا.
  3. الحديقة التوراتية في السفوح الشمالية الشرقية لجبل المشارف على أراضي بلدة العيسوية/الطور، وتبلغ مساحتها 730 دونمًا.
  4. "حديقة الملك" التوراتية، المقامة على أراضي حي البستان في بلدة سلوان، وتبلغ مساحتها 50 دونمًا.
  5. حديقة جبل الزيتون، وتبلغ مساحتها 470 دونمًا.
  6. حديقة "شمعون هتصديق" على أراضي حي الشيخ جراح، وتبلغ مساحتها 120 دونمًا.
  7. حديقة "باب الساهرة"، وتبلغ مساحتها 40 دونمًا.

وإلى جانب "الحدائق التوراتية"، تفتتح بلدية الاحتلال عددًا كبيرًا من الحدائق الاستيطانية، وقد تصاعد افتتاحها في ظل استمرار العدوان على غزة. ففي 16/2/2024 كشفت مصادر فلسطينية عن توقيع بلدية الاحتلال في وقت سابق اتفاقية مع الصندوق القومي اليهودي، لتحويل أراض من بلدة بيت حنينا وحزما إلى غابة استيطانية بمساحة ألف دونم.

وخلال شهر يوليو/تموز 2024، افتتحت بلدية الاحتلال 3 حدائق جديدة للمستوطنين، على أراضي المقدسيين، أحدثها في قرية المالحة. وقبلها حديقتان على أراضي جبل المكبر وبيت حنينا في مستوطنتي "أرمون هنتسيف" و"راموت". وفي 28/8/2024، افتتحت بلدية الاحتلال حديقة عامة في مستوطنة التلة الفرنسية، على مساحة 63 دونمًا.

ولا يزال افتتاح الحدائق مستمرًا، وكان آخرها في 14/5/2025، وهي الحديقة التاسعة التي افتتحتها بلدية الاحتلال منذ 7/10/2023.

"تزهير الصحراء" والاستيلاء على الأرض وغيرها

في خطاب تاريخي ألقاه أمام "الكنيست" عام 1951، دعا رئيس وزراء الاحتلال آنذاك، ديفيد بن غوريون، المستوطنين إلى الاتحاد من أجل "تزهير الصحراء"، وأعلن عن حملة واسعة النطاق لزراعة آلاف الأشجار "على مساحة 5 ملايين دونم"، وهو ما كان يعادل حينها نحو ربع مساحة دولة الاحتلال. وأشار بن غوريون إلى أن أحد الأهداف الرئيسية لهذا المشروع يتمثل في أنه "الطريقة الوحيدة لمساعدة اليهود على تنمية علاقة وجدانية قوية مع الأرض".

وعلى الرغم من هذا الهدف الذي قد يبدو مثاليًا، فإن التشجير المكثف ساهم بشكل كبير في ترسيخ سيطرة الاحتلال على مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومن الأمثلة الصارخة على هذا الطمس، ما قامت به "غابات القدس"، التي غطت عددًا كبيرًا من القرى الفلسطينية، مثل قرى "القبو، وعلار، وصوبا، وعين كارم" وغيرها الكثير.

وتكشف العديد من الصور التي يلتقطها المتنزهون عن بقايا منازل الفلسطينيين المهجرة، المتناثرة بين أشجار الصنوبر، كما هو الحال في قرية عجور قضاء القدس، التي أقيمت على أراضيها حديقة بريطانيا، وقرية لوبيا قضاء طبريا، التي أقيمت على أراضيها حديقة جنوب أفريقيا، إضافة إلى العديد من المواقع الأخرى، التي ظهرت معالمها على إثر اندلاع الحرائق في جبال القدس، ومن بينها المدرجات الزراعية، التي تمثل جزءًا لا يتجزأ من هوية هذه البلاد، وتمثل إرثًا تاريخيًا زراعيًا قيّمًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة